منهج السلف في النقد والتحذير |
الجهاد بالحجة واللسان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان
روى الهرويُّ بسنده إلى نصر بن زكريا قال سمعتُ محمد بن يحيى الذهلي يقول سمعتُ يحيى بن يحيى يقول: " الذّبُّ عن السُّنّة أفضلُ من الجهاد في سبيل الله،
قال محمد: قلتُ ليحيى: الرجلُ ينفِقُ مالَه ويُتْعِبُ نفسَه ويجاهد، فهذا أفضلُ منه؟!
قال: نعم بكثير! "
(( ذمّ الكلام )) ( 111ـ أ )
وقال الحميدي شيخ البخاري :
" والله! لأن أغزو هؤلاء الذين يَرُدُّون حديث رسول الله e أحبُّ إلي من أن أغزو عِدَّتهم من الأتراك "
يعني بالأتراك: الكفار.
رواه الهرويُّ بسنده في (ذمّ الكلام ) (228 ـ الشبل)
ومثل هذا عند من هو أعلى طبقةً من الحميدي؛ قال عاصم بن شُمَيْخ: فرأيتُ أبا سعيد ـ يعني الخدري ـ بعد ما كبِر ويداه ترتعش يقول:
" قتالهم ـ أي الخوارج ـ أجلّ عندي من قتال عِدَّتهم من الترك "
رواه ابن أبي شيبة (15/303) وأحمد (3/33).
ولذلك قال ابن هبيرة في حديث أبي سعيد في قتال الخوارج:
" وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين؛
والحكمة فيه أن قتالهم حفظ رأس مال الإسلام،
وفي قتال أهل الشرك طلب الربح؛
وحفظ رأس المال أولى "
فتح الباري لابن حجر (12/301).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلاّم:
" المتبع للسنة كالقابض على الجمر،
وهو اليوم عندي أفضل من الضرب بالسيوف في سبيل الله "
تاريخ بغداد (12/410).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-:
"وأعداء الدين نوعان: الكفار والمنافقون وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}[التوبة: 73] في آيتين من القرآن، فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعاً تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تُبيّن للناس فسَدَ أمر الكتاب وبُدِّل الدين، كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم يُنكَر على أهله، وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقا وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم}[التوبة: 27].
فلا بد أيضاً من بيان حال هؤلاء بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم؛ فإن فيهم إيماناً يوجب موالاتهم وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تُفسد الدين، فلابد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدع من منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وإنها خير وإنها دين، ولو لم تكن كذلك لوجب بيان حالها، ولهذا وجب بيان من يغلط في الحديث والرواية ومن يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة وإن كان المخطئ المجتهد مغفوراً له خطؤه وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله...
" الفتاوى" ( 28/231-23)
وقال ابن القيم – رحمه الله تعالى:
" بعد أن بين أن القلوب تعود إلى قلبين، قلب يعرف الله بأسمائه وصفاته ويثبتها على مراد الله عز وجل من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، وقلب معرض عن معرفتها ومحرف لها ومملوء بالشبه والجدال والمراء والكلام ومع ذلك فهو يُكفر أهل الحديث ويبدعهم ويضللهم ويجعل إثبات صفات الله تجسيماً وتشبيهاً فقال عن هذا القلب الثاني :
" فما أعظم المصيبة بهذا وأمثاله على الإيمان، وما أشد الجناية به على السنة والقرآن وما أحب جهاده بالقلب واليد واللسان إلى الرحمن، وما أثقل أجر ذلك الجهاد في الميزان،
والجهاد بالحجة واللسان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان
ولهذا أمر به تعالى في السور المكية- حيث لا جهاد باليد- إنذارا وتعذيراً فقال تعالى {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيرا}[الفرقان: 52] وأمر تعالى بجهاد المنافقين والغلظة عليهم مع كونهم بين أظهر المسلمين في المقام والمسير فقال تعالى {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} {التوبة: 73} فالجهاد بالعلم والحجة جهاد أنبيائه ورسله وخاصته من عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والاتفاق " أهـ.
انظر مقدمة منظومته الكافية الشافية ص/ 19 |