بـــدعـــة الــحــزبـــيــة
لفضيلة الشيخ أحمد بن يحيى النجمي
عـلاّمـة ومـحـدث مـنـطـقـة جـيـزان
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد
لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والجزيرة العربية تموج بالقوميات العصبيات فكل قبيلة تقدم ولاءها وتحصر انتماءها وتخص بنصرتها أفراد تلك القبيلة حتى قال قائلهم :
وهل أنا إلا مِنْ غَزَيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وإِنْ تُرْشَدْ غَزَيةُ أُرْشَدِ
يؤيد بعضهم بعضاً على ما يريد سواء كان حقاً أو باطلاً وينصر بعضهم بعضاً فيما يهوى سواء كان محقاً أو مبطلاً فلما جاء الإسلام أمر بالوحدة والالتئام ومنع التفرق والانقسام لأن التفرق والانقسام يؤدي إلى التصدع والانفصام لذلك فهو يرفض التحزب والانشطار في قلب الأمة المحمدية الواحدة التي تدين لربها بالوحدانية ولنبيها بالمتابعة شأنها شأن الأمم الماضية في الرسالات السابقة فقد اتفقت الرسالات السابقة جميعاً على توحيد الله الذي خلق هذا الكون وهو المالك له والمتصرف فيه وعلى الدعوة إلى وحدة الأمة في عقيدتها وعبادتها ومنهجها ووحدة المصدر الذي تتلق عنه وهو الرسول الذي تتبعه والدليل على هذا قول الله جل وعلى: (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم)) سورة الشورى آية 13-15 أي إلى توحيد الله ووحدة الأمة فادع فهو الدين الحق الذي شرعه الله عز وجل لصفوة الصفوة وهم أولو العزم من الرسل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وما أوحينا إليك يا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات من سورة الشورى يقول الله تعالى لهذه الأمة (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك)) الشورى13 فذكر أول الرسل بعد آدم عليه السلام وهو نوح وأخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ثم ذكر بين ذلك من بقي من أولي العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى بن مريم . وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت عليهم في آية الأحزاب في قوله تعالى: { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم} الأحزاب7 والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } الأنبياء25 وفي الحديث : (( نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد)). أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله: { ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاًً} المائدة48 ولهذا قال هاهنا: { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} الشورى13 ( أي وصى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة ونهاهم عن الافتراق والاختلاف ) تفسير ابن كثير4/110 وقال السعدي في تفسيره لهذه الآية : {أن أقيموا الدين } (أي آمركم أن تقيموا شرائع الدين أصوله وفروعه تقيمونه بأنفسكم وتجتهدون في إقامته على غيركم وتتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ولا تتفرقوا فيه أي ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزاباً وشيعاً يعادي بعضكم بعضاً مع اتفاقكم في أصل دينكم) تفسير عبد الرحمن السعدي ج6/599 ومن هذا تعلم أن هذين الأصلين اتفقت عليهما الشرائع وأمر بهما جميع الرسل من لدن أولهم نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وهذان الأصلان هما :
أولاً: توحيد الله عز وجل وهو إفراده بالعبادة دون سواه.
ثانيا: ً الحرص على وحدة الأمة وعدم التفرق في الدين بإقامة أسباب الائتلاف وترك أسباب الاختلاف.
ولهذا فقد ذم الله عز وجل الفرقة في غير ما آية من كتابه جل وعلا كقوله تعالى: { وما تفرق الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } البينة4 وقوله تعالى: { وما تفرقوا إلا بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} الشورى14 وقوله تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} الأنعام آية159 وقوله تعالى: { وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون} المؤمنون53 وقد أخبر الله عز وجل في الآية الأولى من هاتين الآيتين أن وحدة الأمة من العمل الصالح الذي أمرت به الرسل في الآية التي قبلها حيث قال تعالى: { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم } المؤمنون51 فيستفاد من الثلاث الآيات معاً أن العمل الصالح الذي أمرت به الرسل جميعاً ينبني على أمرين اثنين:
أولاً: توحيد الإله.
وثانياً: وحدة الأمة.
فأما توحيد الإله فحقيقته أن تصرف العبادة إلى الواحد الأحد خالق هذا الكون والمتصرف فيه.
وأما وحدة الأمة فحقيقتها أن يعبد الله بما شرعت الرسل عقيدة وعبادة وسلوكاً وأن تكون الأمة كلها كذلك ربها واحد ودينها وعقيدتها واحدة ونبيها واحد وهو الإمام الذي يسيرون على شريعته وهدفها واحد وهو إعلاء كلمة الله في أنفسهم وفي غيرهم وغايتها واحدة وهي الحصول على رضا الله والجنة والنجاة من سخطه والنار ولكن الأمم فعلوا غير ما أمروا به فتفرقوا قطعاً وتشتتوا شيعاً وكانوا أحزاباً متعادين وفرقاً متباغضين كل حزب يظن أنه على الحق وكل من سواه على الباطل وكل حزب بما لديهم فرحون، والاختلاف مذموماً لأنه مؤثر أثراً سلبياً في وحدة الأمة.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليماً كثيرا
في الأدلة من السنة على منع الاختلاف وذمه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقول: (مانهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتعم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)([1]).
قال الحافظ ابن رجب : ([2]) ((هذا الحديث بهذا اللفظ خرجه مسلم وحده من رواية الزهري عن سعيد ابن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه وخرجاه من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)([3]).
والشاهد منه النهي عن الاختلاف وهنا يعتبر نهياً شرعياً يعارضه ما أخبر الله عزوجل عنه من وقوع الاختلاف قدراً كقوله تعالى {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}([4]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هم يارسول الله؟ قال: هم الذين على مثل ما أنا عليه وأصحابي)([5]) ففي هذه الآية والحديث إخبار عن الاختلاف الكوني القدري.
ومن التحذير من الاختلاف حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي... الخ([6]).
وفي الحديث أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لتتبعن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يارسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن )([7]).
وروى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبدالله البجلي قال: (إقرؤا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذ اختلفتم فيه فقوموا)([8]).
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: هجَّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول اللهصلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: (إنما هلك من قبلكم باختلافهم في الكتاب)([9]).
|